السبت، ٢٦ يناير ٢٠٠٨

مآرب المشارب



خمر:


شربنا في تلك الليلة كما لم نشرب من قبل ،وبينما نحن سائران بشوارع وسط البلد نحو سيارته السوداء الفارهة.. دخلت أفكارنا السباق ..ولكن في نفس الفريق !!
تجسدت خيالاتنا ..طرحت أنا الفكرة..فأضاف عليها .. فنفخت فيها لتتضخم .. أضاءها .. فألبستها من أبيضي وأسودي .. فلونها .. قلّمت أظافرها .. فأغدق عليها من مباهج الزينة ، ككرة الثلج الهابطة .. أخذت روحانا تدعم جنوننا .. وبالتدريج لم نعد نسمع إلا أصواتنا .. لم نعد نميز أين نسير وإلي أين .. ومع كل تعديل أو إضافة أو كلمة ننطقها في نفس اللحظة تنطلق ضحكاتنا لتكسر حاجز الصمت الوهمي الذي صنعه اندماجنا .. كان يضحك حتي يعجز عن الكلام أو التنفس .. ويبدأ في سعال لا ينتهي إلا بمزحة يطلقها ليغرق في القهقهة من جديد .. وقفت .. وقف أمامي وكأننا متفقان سلفاً علي ما سيحدث.. بدأ في خلع حذائه وأتبعه بقطعة قطعة من بذلته الأنيقة .. ولما أتم الخلع نظر إليّ ليقرأ تلك النظرة التي كان ينتظرها والتي تُردد بلا تَردد جملة " أعلم أنك قادر علي فعلها" .. فينزل من علي الرصيف وفي منتصف الشارع تماماً ينظر برأسه إلي الأعلي .. يرفع يمناه بتشنّج إلي أقصي ما تستطيع أن تبلغ .. ويسراه منفرجة الأصابع مفرودة بجانبه تصنع مع جسده زاوية حادة ضيقة كتمثال قديم في أحد ميادين روما .. رفع كعبيه من علي الأسفلت .. ضغط جفنيه بقوة وتفصد العرق من جبهته .. "جزّ" علي أسنانه حتي كادت عروق رقبته تقفز لتقف بجانبه كأبنائه .. فتح فمه علي اتساعه حتي كاد فكّه السفلي أن ينخلع وأطلق صرخته: "أناااااااااااااااااااااااااااااااااااااا"
.. بابتسامة لا تفارقني كنت أراقب المشهد .. ولكني لم ألاحظ تلك السيارة القادمة نحوه في سرعة جنونية..كما-بالطبع- لم ألاحظ أن الكرسي خلف عجلة قيادتها ..كان خالياً.....!!


عصير:


واقفاً نفس وقفته لكن ملامحه كانت أكثر هدوءاً.. كان يقطف ثمرة مانجو من فرع أعلي من طوله بقليل.. كان مرتدياً-كما كنت أرتدي- فراء شاه لستر العورة .. قرص الشمس الأحمر المكتمل هو الخلفية المناسبة لمشهد بدائي كهذا.. واقفاً نفس وقفتي كنت.. وكان أمامي جزعاً لشجرة ..مثبت في الأرض بجذور يؤكد عمقها اتساع القطاع العرضي للجذع وعدد دوائره الكبير .. كان الجذع يصل لمستوي بطني وفوقه كنت أشعل ناراً أطهو عليها .. قطف الثمرة.. وبينما هو قادم نحوي متكئاً علي حربته المثبت في طرفها الأعلي ناب أيسر لفيل أفريقي كان ينظر إليها بشهوة بالغة .. سال الزبد من شدقيه واحمرت عيناه وتطاير منهما الشرر.. الخليط الذي أقلّبه في القدر النحاسي يفور ولا ينقصه سوي تلك الثمرة .. بعد تردد طويل ناولني إياها .. وبعد أول رشفة من العصير جري بأقصى سرعته .. وقف علي حافة الهاوية التي تفصل بين الجبل الذي نسكن قمته والذي يليه .. سحب شهيقاً كبيراً ملأ به رئتيه .. وقفز ..هل كنت مخطئاً إذن عندما أذقته عصيراً من المانجو..مختلطاً بدماء ضحاياه..؟؟


حساء:


أصاب التطور الموقد البدائي والقدر النحاسي وأصبحت أنا في مطبخ حديث أعد الحساء .. كانت هي واقفة تستند بكتفها الأيمن علي الحائط .. عاقدة ساعديها وتنظر إلي بشغف وشوق ورغبة حتي أني كنت أشعر بعينيها كمغناطيس قوي .. فأقاوم جسدي الذي بدأ يميل ناحيتها بفعل الإيحاء .. كنت أتكلم وأتكلم وأتكلم .. أتقافز بين الموضوعات بخفة ورشاقة فهد..من الطعام إلي السينما إلي الرياضة صعوداً إلي الأدب وهبوطاً إلي موضة هذا العام وأخبار الوسط الفني .. كانت -ظاهرياً- تنصت بكل جوارحها وإن كانت نظرتها تنفي ذلك .. تراقب انفعالاتي .. وكأنها تريد حفري في مخيلتها كنقش فرعوني.. لم يكن عقلها دائراً بعيداً عني فلم تكن سارحة وإنما كانت شديدة التركيز فيما ترغب هي التركيز فيه.. نطقت بعد صمت طويل " تفتكر في واحدة تقدر تقاوم واحد بيطبخ حلو زيك كده ؟؟" قلت " جايز " .. عقدت حاجبيها وضمت شفتيها كحبة كرز .. تتضايق من أن كل إجاباتي مفتوحة ..لا أعطي رأياً حاسماً .. نادراً ما أقطع بالرفض أو القبول لرأي ما .. بدأت الرائحة الذكية للتوابل الهندية والدمشقية تتصاعد .. أغمضت عينيها .. وأصدرت صوتاً يدل علي الاستمتاع والتلذذ دون أن تفتح شفتيها "اممممممممم" .. كنا نريد لليوم أن يمر عادياً بلا أدني إشارة أنه لقاؤنا الأخير .. لا أحب الوداع .. وأريد أن تكون ذكراي الأخيرة لديها هادئة .. ولكن هاتفاً جاءها –وأصررت أن تجيبه أمامي-من الذي ستزف إليه بعد أيام قلائل قلب كل الموازين.. وبتتابع مذهل للأحداث تشاجرنا.. صرخنا .. تعاركنا بالأيدي والأرجل .. ذبنا في عناق طويل نلعق جراحنا.. بلل كل منّا كتف الأخر بدمعاته الساخنة.. ارتدينا ملابسنا .. اتجهنا لبرج القاهرة..قررنا الانتحار .. ومن أعلي البرج .. اندمجنا في قبلة أخيرة .. 1..2..3..قفزت أنا.. ولم تقفز هي .. ظلت تنظر إليّ من أعلي .. وفي منتصف المسافة .. وجدته يواصل هبوطه من الجبل ..كان نصفه الأعلي الأملس عارياً .. مرتدياً بنطالاً قماشياً أسوداً وحذاءاً شديد اللمعان .. ما أن رآني حتي صاح "أنا لم أ......." .. وقطع جملته صوت الارتطام البشع -علي الأرضية الزجاجية التي لم تتحطم- ..لكلينا...


تبغ:


دعوني أعدّل قليلاً من الصورة السابقة .. بدلاً من أرضية زجاجية و رجلان نائمان عليها .. سأثبتها من عند أقدامهما وأرفع من الجهة الأخري.. نعم ..بالظبط هكذا .. سأرفع تلك الأرضية الزجاجية لأعلي من المستوي الأفقي للمستوي الرأسي حتي تصير جداراً رأسياً – واجهة بمعني أصح- وهما معها.. واقفان يدخنان بشراهة ويشعلان اللفافة من سابقتها وكأنهما يتنفسان النيكوتين .. البشر يجيئون ويذهبون وهما واقفان .. يتحدثان ولا ينظران لبعضهما البعض .. أعينهما مثبتة علي ذلك "المانيكان" خلف الواجهة الزجاجية .. كان مثبتاً في الأعلي تحت السقف مباشرة .. علي هيئة امرأة تتدلي من شرفة وكأنها تتابع هدفاً ما بالأسفل .. قال الأول ذو البذلة الأنيقة والحذاء اللامع :"مذهل" ..فرد الثاني –وكان شعره طويلاً وذقنه غير حليقه مرتدياً بنطالاً من الجينز ومعطف جلدي وكوفية ملونة كما يليق بشاعر صعلوك-:"مُلهم" ..فرد الأول : "فعلاً" وأضاف " تُري لمن تنظر ..؟؟" فأجاب الثاني :" المهم هل من تنظر إليه..ينظر إليها ..؟؟!!" ..شعر الأول بالبرد فاستخدم نظرية الإسقاط وسأل الثاني :"بردان..؟؟" .. فمنع غرور الثاني لسانه من النطق بالإيجاب :"يعني" .. و واصلا التأمل...


خمر:


نفذت سجائري .. وبدأت أضيق من هذا الرفيق قليل الكلام .. و شدة شعوري بالبرد تجعلني لا أستطيع التحرك لأحضر معطفاً من سيارتي أرتديه فوق تلك البذلة ..سألني :" تيجي نتدفي" ..أجبت في سرعة :" ياريت..بس ازاي ؟؟" .. فعدّل من وضع "كوفيته" علي رقبته وقال " ماتيجى نشرب ازازتين بيرة " .. فلم أشأ أن أخبره أني لم أفعلها من قبل.. فوافقت ..اقترح أن نذهب مشياً علي الأقدام لأن الحانة قريبة وقد لا نجد مكاناً أمامها لنضع السيارة .. ذهبت معه..جلسنا متقابلين علي منضدة مربعة صغيرة .. وعندما جاءت النادلة بالخمر .. نظرت إليها لأشكرها عندما ترقرق صوتها الجميل في أذني بجملة "أي أوامر تانية يافندم" ..حدقت بوجهها طويلاً .. فارتبكت .. أعطتنا ظهرها ورحلت ...وقبل أن أكمل سؤالي :" أليست تشبه ......؟؟" ملأتني الدهشة .. مَن هذا الجالس أمامي .. ؟؟ ..لأول مرة أري هذا الوجه الغريب .. فقربت رأسي منه حتي لا يسمعني أحد رواد الحانة وسألته وعقلي علي حافة الجنون :"من أنت..؟؟" فقال وهو يرمقني بنظرة جانبية و يرفع الزجاجة علي فمه-برغم وجود كؤوس- :"اشرب..اشرب"......فشربت.......


ماء:


نسرين لا تكذب أبداً ..لكن كيف أصدقها هذه المرة..!!
مشيت عبر المناضد تجاه البار..فتحت باب المخزن الصغير وأغلقته خلفي.. أخذت زجاجة الماء الصغيرة من الثلاجة الصغيرة وشربتها حتي آخرها .. أشرب ماءاً كثيراً عندما أكون متوترة .. ما معني أن أري هذا الشخص الذي يحدق بوجهي في حلمي ليلة أمس .. يضغط بقوة يديه علي رقبتي حتي كادت روحي أن تُزهق .. وعندما حاول الثاني-الجالس معه الآن-تخليصي قتله علي الفور ..ثم أجدهما في اليوم التالي جالسين معاً في الحانة التي أعمل بها ؟؟.. لابد أن كارثة ما ستقع ..سأهرب من قدري إذن ..سأدعي المرض وأغادر المكان..ما إن فتحت باب المخزن حتي وجدت نسرين-زميلتي – أمامي فسألتها: " شايفه الاتنين اللي علي ترابيزة خمسة..شكلهم مريب مش كده ..؟؟ " فردت في اندهاش : " سلامة عقلك يا حبيبتي ..ترابيزة خمسة فاضية .. ماهو حاجة م الاتنين .. يا إما نظرك بقا شيش بيش .. يا إما مخك بقا في المهلبية يا مهلبية " ..ثم قرصتني في ذراعي وضحكت ضحكة رقيعة وغادرتني-وهي تمشي مشية ال"cat walk " -لتواصل عملها ..
نسرين لا تكذب أبداً ..لكن كيف أصدقها هذه المرة..!!

الثلاثاء، ٢٢ يناير ٢٠٠٨

وقائع الدقائق قبل الأخيرة لصلب مريم الثامنة


سيدتي ومولاتي وملاذي .. لم يتبق الكثير علي يوم الصلب العظيم ..دعينى إذن أهذي وأهلوس من أثر خمرك المقدس الذي أتلف خلايا عقلي بالكامل وبرغم ذلك مازالت أركض بين أمواجه طمعاً في الوصول لثمالة الثمالة والتي أعلم يقيناً أنها لن تأتي أبداً..دعينى أخرف و أهرطق حتي حلول تلك اللحظة الدامية التي ستغادر فيها روحك الأبدية جسدك الذي تتعاظم طهارته بازدياد قدرته علي العطاء ..دعينى أذوب احتراقاً وفوراناً وغلياناً في محرابك النوراني كبركان كسول..أمارس صلاتي الأخيرة علي طريقتي ..أجري في مكاني كالمحموم ..أتمرمرغ في تراب الأرض كما يليق بممسوس.. أصنع من ذراته قصوراً وهمية أحشوها بأثاث من جزيئات الهواء ثم أعرق حتي أغرق فأغمرها بطوفاني.. وفي أقل من لحظة ينتهي كل شيء.. ليبدأ من جديد..



سيدتي ومولاتي وملاذي.. اتركي بصماتك الشريفة في كل البقع الممكنة .. المسي الكون من أعلي ..مرري أناملك الرهيفة علي الأرض .. احتضني هذا الكوكب المتألم بقوة ..اضغطيه بين نهديك واضغطيني.. اضغطي علي كل موقع بجسدي الملتهب .. دلّكي مفاصلي المتعبة و اخترقي بأصابعك غاباتي ..اعبثي كالريح في اتجاهات أوراق أشجارها ..فككي ضفائر أسراري وبعثري أكواد طلاسمي .. احرقي جلدي..شوهي وجهي .. اجدعي أنفي و اقطعي صيوان أذني اليمني و دعي اليسري لأسمع بها صراخ عذابي ولذتي اللاإرادي .. امسحي ذاكرتي واصهريني في ذاكرتك الكلية كرقم مهمل أخر يضاف لطابور عشاقك الملياري ..



سيدتي ومولاتي وملاذي.. لا تتركي شبراً بلا أثر منكِ .. أنثري دبابيسك وأزرارك وأساورك وخواتمك وشرائط شعرك كالمطر المنهمر .. فرقي حروفك علي أطفالك المساكين .. اطبعي القبلات علي أجبنة المجاذيب .. اسبحي بكل الأنهار والبحار والمحيطات و وزعي خطواتكِ –بالتساوي- علي كل الصحاري والأودية والطرق المعبّدة .. اسكبي-كالشهد المُصفي- نصائحك السحرية وتعاويذكِ المصطفاة في آذان الفتيات الغافلات ..ازرعي الحب في قلوبهن المُديرة وجوهها عن حياة الحق..وعن حق الحياة .. ولا تحرمي العاشقين عطاياكِ المشتهاة ..ولكن أبداً لا تتعري أمام أحدهم ..أيرضيكِ أن تبور كل نساء الأرض..؟؟ وأن يسمل الرجال أعينهم بأيديهم بعدما تغيبين ولا تعطي تاريخاً لمعاودة الوصال..؟؟



سيدتي ومولاتي وملاذي.. جودي بأي شيء علي المتمسحين بتلابيب أرديتك أثناء صعودك بهدوء وثقة لتنفيذ الحكم النافذ بقلبي كحسام مخضل مهند يخرج ليعاود الدخول- مخترقاً لحمي- كبندول أبدي.. جودي عليهم برذاذ سعالك فينعشهم صيفاً ويدفئهم شتاءاً.. بأطراف من قصاصات أظافرك يحفظونها في صناديق صدفية علي وسائد مخملية كماسات نادرة .. بمخاطك الطاهر يغتسلون بين حناياه مرة فلا يمرضون بعدها أبداً.. بلعابك اللذيذ اللاذع كثمرة تامة النضج لفاكهة استوائية .. بشمع أذنك الياسميني المتعطر .. بشعرة من ليل رأسك الذي سيخيم بغيابك ولن ينقشع .. برمش خنجري يتصارعون عليه ويتقاتلون حتي يفنون علي بكرة أبيهم فينقطع ذكرهم و يتحولون للعنات طائشة تتفرق بين النفوس ليستمر نسل الخائنات وأغنياء الحروب..!! ..



سيدتي ومولاتي وملاذي .. أما أنا ..فأطمع في الدقيقة قبل الأخيرة .. ولا تنخدعي بقناعتي .. فما لا تعلمينه أني سأوقف الزمن .. لا تسخري مني .. نعم سأفعلها .. لا تقولي أنه مستحيل لا ترددي تلك الخرافة.. المستحيل نحن من نصنعه ونحن أول من يقدر علي هدمه .. هي مسألة تحكم عقلي ليس أكثر .. سأستنفر كل مجهودات سنيني ..سأستحضر كل لحظة أصابني بها نعاس أو خمول أو دعة .. سأنظم جيشاً من اللحظات و قطرات العرق و الرغبات المكبوتة و التفاصيل الصغيرة .. ها أنا قد فعلتها .. أترين .. كل البشر مثبتون علي أوضاعهم.. الطيور معلقة في السماء .. اللبؤات نائمة في عرائنها بعين مغلقة وأخري مفتوحة علي الأشبال الصغار .. وهل ترين تلك البنت الواقفة علي أطراف أصابعها تمد يدها ناحية الولد الواقف علي أطراف أصابعه يمد يده في الشرفة المقابلة .. يالهما من محظوظان..لقد أوقفت الزمن في لحظة التلامس ..!! .. لا يجب أن نضيع الوقت في التأمل فقدراتي أقل من أن يستمر هذا الوضع طويلاً .. هيا .. دعينا نرتكب كل ذنب ونقترف كل إثم .. انفلتي من مداراتك واهبطي من فوق سحاباتك ..اتركي الشمس من يمينك والقمر من يسارك .. وتهادي علي سجادتي الإيرانية الحمراء .. لعل خلية من خلايا باطن قدمك تتحاب مع خلية من نسيجها يدوي الصنع فيتزاوجان ..لينتج عن تكاثرهم مخلوقاً ظاهره الخشونة فلا تصنع بوجهه أنياب وحوافر ومخالب الزمن أي خدوش واضحة ..



سيدتي ومولاتي وملاذي.. أرجوكِ لا تقفي هكذا تنظرين إلي وتبتسمين .. قاربت قوتي علي النفاذ وسيعود الزمن لجريانه ..هيا..افتحي ثغرك الفتّان وابلعيني .. سربيني عبر مسامكِ لأستقر تحت جلدك المرمري الدافيء.. اشطريني-أنا المتوحد في هواكِ المتسربل بعطفك وفضلك وإحسانك- واستخدميني كحمالة صدر ..لأظل ملتصقاً بنهديك السنجابين ناعمي الفراء.. أعب بنهم من عذب الجدولين الرقراقين كصائم محروم منذ سنوات.. ولن أشكو أبداً من زمجرة الزلزالين.. من غضب الفيضانين ..أو من هياج الإعصارين.. افتحي يدك .. خذي.. هذا سكيني الحاد المفضل .. قطعيني قطعاً بالغة الصغر والتهميني بتؤدة واستشعري طعم خلاياي ..لأكون عشاؤكِ الأخير ..نامي علي فراشي .. تمسحي بأغطيته حتي أموت عليه فأبعث علي حالي ..ميتاً بجنة .. مبعوثاً بجنة .. فتخجل الملائكة من ادراجي بكشوف الحساب ..وكأمير للعاشقين ..كشهيد مرفوع عنه القلم –شهيدكِ-أخلّد بجنة ..



سيدتي ومولاتي وملاذي.. كمنزل قديم أكل النمل الأبيض أعمدته..انهرت بعد أن خارت قواي.. قهرني الزمن بعنفوانه السرمدي وجري بسرعة أكبر ليعوض ما فاته .. أراكِ تبتسمين بحنان ليس له مثيل لمن يسوقوكِ للصليب الخشبي الراسخ .. أري جلودهم تقع ودماؤهم تنزف من أعينهم وأنت تزيدين من سحر النظرة فيتضاعف العذاب .. ما أراه هو تجسيد للندم مقابل الألم .. ندمهم الذي لن يذوقوا بعده راحة.. مقابل ألمك ..ألمك الذي تتعاملين معه باستهانة كتعاملك مع شعرة بيضاء ضلت طريقها لمفرق شعرك النهري المنسدل علي هضبتي كتفيكِ الأملستين .. لك كل الحق ملكتي.. فماذا سيكون هذا الألم مقابل ما تجرعتِ من غصات محرقة وما تناولتِ من سموم موجعة لم تزدكِ إلا طهراً ونقاءاً واتساعاً في الابتسام..لم تقاومي إلا بحبس الدمعات فانهمرت بداخلك لتغسلك.. ابتسمي إذن وتقدمي مادمتِ قد اتخذتِ قراركِ بالاستسلام الأخير .. ابتسمي وتقدمي وسأرجوهم وأتوسل إليهم الرفق في دق المسامير بمعصميك وقدميك.. كل دقة بكل مطرقة علي كل مسمار تنغرس بقسوة وعنف في قلبي .. رحماه يا ربي .. هاهم يصعدون إليك بإكليل الشوك .. لا تتحاملي عليهم أو تتهميهم بالخيانة .. فالأيدي التي غزلت إكليل الشوك أطهر وأشرف وأنبل من الأيدي الوضيعة الدنسة التي تقطر خسة وحقارة التي أوصلتكِ لهذا المقام المهيب .. حتي هؤلاء أعلم أنكِ لن تغضبي منهم ولن تبغضيهم –فأنتِ أسمى من ذلك- دعيهم إذن في طغيانهم يعمهون .. فهم لا يعلمون إلي أي منقلب ..سينقلبون ..



سيدتي ومولاتي وملاذي.. مصلوبة أنتِ علي تلك الربوة .. و الكل ساجدين من هول ما رأوا .. دائرة بشرية عظيمة .. محاطة بدائرة حيوانية .. تليها أخري من الجن ثم تغلق الأشجار الدائرة .. المشهد بالكامل مسقوف بأعداد هائلة من الطيور التي توقفت عن الرفرفة وفردت أجنحتها ليحملها الهواء.. الكل ينتحب في صمت .. وقف القمر أمام الشمس فحجب ضوئها باستثناء هلالاً ضوئياً رفيعاً .. سكن الجميع إلاي.. واقفاً أما الربوة .. رافعاً يمناي لأعلي قابضاً علي تلك الصرة القطيفية الخضراء الكبيرة .. لم ينتبه إلي أحد إلاكِ.. أنزلت يدي ومددت الأخري لأقبض علي رأس ذلك الثعبان بالداخل .. كم هي زجاجية الملمس تلك القشرات المصقولة التي تغطيه.. أخرجته بالكامل .. أنزلت أناملي من رأسه لعنقه لأسمح له بفتح فمه علي اتساعه .. أظهر أنيابه المسنونة اللامعة .. بيسراي أقبض بحنان علي رقبته لألا يختنق .. ويمناي تعصر أعلي ذيله لأزيد هياجه ورغبته في الافتراس ..أثبتُ اللهيب المتقد من بين جفوني عليكِ ..فتزرعين الطريق بيننا بالسندس والإستبرق ..أقربه بهدوء .. فحيحه لا يملؤني إلا طمأنينة .. أقربه بهدوء..عيناه تلتمعان ببريق مخيف لا يردعني ..أقربه بهدوء و قبل الملامسة بشعرة أسدل جفني..أضم شفتي..أرسل لكِ قبلة في الهواء .. سامحيني مولاتى ..لم أفعلها انتحاراً.. فعلتها فقط ..رغبة في الوصول ..



سيدتي ومولاتي وملاذي..
تنغرس الأنياب..
يسري السم..
أنتهي .....

الأحد، ٢٠ يناير ٢٠٠٨

في رحاب النص السابق


لا أحب التبرير..كما لا أحب تفسير ما وراء الكلمة طمعاً في أن تسافر وحدها لتبلغ مستقراتها خلف كل الجلود مع ما يصادفها من هوي ..أحب لكلمتي أن تزور كل المدن .. أن تتقلب بين أجساد المعاني كغانية محترفة ..أن تقرأها كل عين بشكل مختلف .. تشتمها كل أنف برائحة مغايرة ..ويتناغم صداها بتغريدات متنوعة داخل كل أذن ..ولأن نرجسيتي تسمح لي بأن أتصور كلماتي بكل تلك المرونة والمطاطية فمن الجهل إذن أن أكون عاجزاً عن مناقشة أي معني قد تصيبه تلك الكلمات ..أستطيع-بالطبع-لكني لا أفعل ..لا أحب..لا أريد..وهل من المفروض علي من يقدم سمكة ذهبية في طبق من ماس أن يقدم تقريراً عن عدد القشرات..؟؟ أعلم أن نبرتي قد تبدو حادة ..وذلك طبيعي بعد ما لاحظته من فهم بالغ السوء ..فهم معكوس .. لمعني من المعاني التي قد تصيبها الكلمات هذه المرة ..لن أقول أني مع إلغاء الحد الوهمي الفاصل بين الرجل و المرأة..ولن أقول أني من أنصار حرية المرأة وحقوقها .. كما لن أكرر انحيازي لأنثوية الوجود ..وأنثوية القرار ..وأنثوية الأصل .. كما لن أستدعي "ليليت" من العهد القديم لتدافع عن نفسها ..لن أفعل سوي أني سأضع نفسي مكان من فهم النص هذا الفهم المتعنت وأحاول رؤية ما لم أراه أو ما رأيته معكوساً ..


أولاً :الرمز


..أنا شديد الخجل وأنا أقول ما لست في حاجة لأقوله أن الصياد ،الزورق ،الجزيرة ،الغزالة ،الحيوانات،الرمح ،الآلهة الصغيرة والكبيرة والدماء السائلة هم مجموعة من المشخصاتية ..ممثلون يؤدون أدوارهم ويخلعون بعدها أقنعتهم ليعودون إلي الحياة الحقيقة لتأدية أدوارهم بها .. المجازية المستخدمة هي لصفة وحيدة ..الغزالة لجمالها وليس لكونها حيوان أعجم .. الإنسان لاحتياجه وليس لكونه حيوان عاقل ..صعود الجبل للارتقاء بعد دنو وليس للوصول لمرتبة الأنبياء ..وإذا مشينا وراء الافتراض القائل بأن الغزالة أنثي والصياد ذكر فالاحتياج هنا هو الحب وباقي الحيوانات تصبح مشاغل تعطله أو معوقات قد تقف في طريقه ..وكون الفرائس سهلة في طريق جائع يرسخ صعوبة المعوقات .. وبذلك أجد من يعترض أن الإعجاب بالغزالة لا يكون إلا بتناسق الجسد وجمال اللون-مع عدم التفكير في طعم لحمها بعد الشواء ومع التردد في صيدها ومع التمني للتحول لمثلها- في ظل غريزة هي الجوع وزمن هو قبل التاريخ لا يرغب إلا في مجادلة لا طائل منها سوي المجادلة ..ولحظه السيئ أن تلك احدي هواياتي القديمة..فأهلا وسهلاً ومرحباً..


ثانياً : الارتقاء


أعرف كتاباً لا يكتبون إلا بين القبور ..كما أعرف أثرياءاً لا يحلو لهم إفطاراً إلا من "عربية فول" ..أريد أن أقتطع تلك اللحظة وتكبيرها وإلغاء باقي سيناريو الحياة ..ما هو شعور ذلك الثري مع كل لقمة يلوكها بين أسنانه ؟؟ ..يقطعها بتؤدة بين أسنانه الأمامية ..يُعمل كل خلايا لسانه في تذوقها بمتعة لا نهائية .. ثم ينقلها في بطء لتطحنها ضروسه الخلفية ويستشعر مسارها عبر جوفه لتستقر هانئة في معدته ..وهذا الكاتب لن يشعر إلا بالاشمئزاز والنفور إن تم نقله في حالته تلك لقصر فخم مزود بكل وسائل الراحة والترفيه ..الفول حينها ليس الطعام رخيص الثمن ..ليس طعام الفقراء..والقبور حينها ليست ذلك المكان الموحش المسكون بالأشباح ..ليست مأوي المُشردين .. إنما هما مفردان مجسدان من مفردات الجمال ..الجمال الذي قال عنه جبران أنه ضالتنا المنشودة في حياتنا كلها وكل ما سواه هو أشكال من الانتظار..علي ضوء هذا تكون أمنية الصياد أن يصير غزالاً رغبة في الارتقاء وليست انتقاصاً من المكانة ..فالتطلع دائماً يكون لأعلي ..من وجهة نظر الرائي بالطبع..


ثالثاً:منابت الحكمة


قد يكون الذكر متأملاً جيداً للفلسفة والحكمة ..متعلماً نبيهاً ..هاضماً جيداً .. ولكن من أين استقي تلك الحكمة .. لو كانت الدنيا كلها ذكوراً لغرقت في جهلها وحماقاتها ..ألم يقول توفيق الحكيم-مع عدم اتفاقي الكامل مع المغزى المقصود- أن كل زوج هو فيلسوف دون أن يتعلم حرفاً في الفلسفة..؟؟ ..احتاج هو لصعود الجبل ليتعلم الدرس ..أما هي فواقفة بمكانها ..ودون أن تتحرك ومع أول تلامس بينهما أخبرته بوجود نسخة مصغرة من الله بداخله ..يناجيها في الشدائد .. وتُظهر نفسها له عندما تري أن الأمر يحتاج لذلك .. وها هو حتي الآن يتذكر الدرس الذي تعلمه منها ..ولكنه ينساه أحياناً..!!


رابعاً :كلمات لابد منها


فعلت ما لا أطيق أن أفعله ..وللكل الحق في الاحتفاظ بآرائه الخاصة أو الاقتناع بهذا الهراء الذي ترددت كثيراً في وضعه هنا ..تحياتي وتقديري لمن فهم النص برؤية أوسع..تحياتي وتقديري لمن رآه من منظور أضيق ..وكامل حبي و إخلاصي لمن رفض أن يقبله إلا بتلك الصورة ..وهدفي كان وسيظل إضفاء بسمة .. أو إضافة متعة..أو مشاركة لحظة ..وأخيراً أعتذر لنصي العزيز أني أهنته تلك الإهانة البالغة بمحاولة تحليله ..وأشكركم جميعاً علي المتابعات والزيارات والتعليقات .. ألف شكر..

السبت، ١٢ يناير ٢٠٠٨

نزيف الأمس الطازج


وفجأة..خيم الصمت ..سكتت كل الأصوات ..سكنت كل الحركات.. إلا صوت ارتطام سن قلمي علي الورق..وحركته من اليمين إلي اليسار..اختفت النجوم من السماء..تواري القمر خلف سحابة سوداء،ولم يكن في الأفق إلا ضوء شاحب خافت من "عمود نور" وحيد بعيد غير كامل الاستقامة يقاوم البرد الشديد ويقاوم الانطفاء ..شلل..شلل كامل ..أصابني من طرف عقلي الأعلي حتي طرف روحي الأسفل ..لكنه تجنب يدي اليمني لتواصل النزيف علي الورق ..مبدئياً..وقبل الدخول في أي منافسات..حُسمَت نتيجة الصراع الدائر بيني وبين الزمن..السباق مُحدد المسافة..هو يجري بسرعة منتظمة لا تتغير..وأنا بعدما كنت قد تجاوزته..وقفت.. سبقني.. وها هو يقترب بثبات..من خط النهاية..لا صوت يثبت لي أني أمتلك أذنين..لا إثبات سوي صورتي في تلك المرآة الكاذبة التي لم أعد أصدقها ..مَن أصدق الآن غير تلك الناموسة الواقفة بثبات علي إبهامي الأيسر ترتشف من دماؤه بتلذذ و تملأ جوفها حتي ترتوي ثم تطير مخلفة مكانها التهاباً صغيراً ورغبة في الحكة دون أن أستطيع"هشها" ..لتقوم بمهمتها كاملة..؟؟ ..لازالت حاسة الشم تعمل..أشم رائحة شواء شهية..لكنها لا تثير بداخلي أي رغبة لتناول الطعام.. بل أنها تذكرني بذلك اليوم قبل التاريخ..كان نهاراً جميلاً..ركبت زورقي الخشبي وسعيت لاكتشاف شاطئاً جديداً .. تركته علي الشاطيء فجرفته الأمواج ولم أنزعج لعلمي بأني سأصنع غيره بمجرد رغبتي في الرحيل..صعدت جبلاً وكلمت الله .. وأخبرني أنني لست محتاجاً لصعود الجبال لأكلمه لأن المسافة التي أقطعها عندما أود محادثة نفسي أطول بكثير من المسافة التي يتوجب عليّ قطعها لأكلمه..نظرت إلي الجزيرة من أعلي ..رأيت علي البُعد غزالة بديعة ..تذكرت أني جائع..جائع بشدة..اشتهيتها ونويت صيدها ..نزلت..قطعت شجرة وصنعت رمحاً.. وجدت في طريقي ثلاثة أرانب نائمين..لم أقترب منهم خوفاً من أن أشبع فأزهد غزالتي الشهية ..ومع خطوتي البطيئة التي لا تصدر صوتاً اقتربت بشدة من نعامة كبيرة .. قد تكفيني كزاد لعدة أيام..لم أعرها اهتمامي ..أكملت طريقي.. ثم توالت الدجاجات والبطات والإوزات والخنازير والجمال والأبقار والجاموس و حتي الغزلان ..!! ..لم أعرف كيف ومتي ظهر كل هذا العدد من الفرائس السهلة ؟؟ فلم أكن أري من قمة جبلي سوي غزالتي المنشودة..بلغ بي الجوع مبلغه.. وبدأت قدمي في الارتعاش وعيني في "الزغللة" ..رأيت غزالتي ساكنة ..يالجمال لونها وتناسق جسدها..!! ..كلمت الله الأقرب إليّ من نفسي.. "سبحانك ربي..وما أبدع خلقك..لمَ يا ربي لم تخلقني غزالاً لأتزوجها وأعيش العمر بجانبها..!!" ..ترددت في صيدها ولكن غريزة الجوع قاربت علي قتلي .. اقتربت منها بشدة لرغبتي في أن تكون ضربتي واحدة فتنفذ إلي قلبها وتموت علي الفور ولا تتعذب ..وقبل أن أرفع الرمح بلحظة..داست قدمي علي ضفدعة لزجة.. تعثرت ..وقعت ..لكن غزالتي لم تتحرك..قمت في ذهول لأدور حولها والجنون يقترب من عقلي كقدم علي وشك الدخول في جورب.. درت عدة دورات حول هذا التمثال البديع علي شكل غزالة..لم أكن نادماً أبداً علي الطرائد السهلة فكسرت رمحي علي ركبتيّ فجرحني..انغرس طرف من أطرافه أعلي ركبتي اليمني بعمق..نزفت الدماء بغزارة ..لم أنتبه.. ولم أنقل عيني المنبهرة من علي التمثال ..حككت ذقني الطويلة وبلعت ريقي بصعوبة شديدة محاولاً ترطيب حلقي الفحمي المتحطب.. اقتربت من التمثال ..لمست رقبته بيدي المعروقة الخشنة .. كان ملمسه إسفنجياً حريرياً دافئاً ..وكأن الحياة مختصرة ومركزة تحت هذا الجلد المتفرد النادر مباشرة.. اقتربت بكليتي واحتضنت التمثال ..لطخت الدماء المنسابة مني جانبه..ابتعدت عنه قليلاً لأقرأ الجملة التي تشكلت وحدها بدمائي "بداخل كل منّا إله صغير" ..لا أنسي ذلك الموقف أبداً ..خاصة بعدما ظهر لي ذلك الإله الصغير عدة مرات..كما يظهر لي الآن ليخلق دنيا كاملة موازية ..لا لون لها.. لا صوت بها.. لا حركة سوي حركة رتيبة لقلم..لا رائحة سوي رائحة شواء قلب.. احترق تلقائياً لأنه لا يفهم حياة بدونك..وقد رحلتي ..دنيا موازية مصاب أنا فيها بشلل كامل..أحوي قلباً محترقاً ..ساكن..ساكن تماماً.. والحياة تسير..حقيرة كما كانت..وحقيرة..كما ستكون..

الخميس، ٣ يناير ٢٠٠٨

هدية متأخرة لها بمناسبة بداية عام جديد قديم متكرر


لا أرغب إلا في الكتابة ..والحقيقة أن رغبتي المُلحة في الكتابة تشير بالطبع لرغبة أخري أعجز عن تحقيقها فأعوض ذلك كتابة..أود أن أكتب فقط ..أكتب و أكتب و أكتب حتي ينتهي العالم ..فلا أقوم من محاكمة نفسي علي الورق إلا لمحاكمتها من قِبَل ربي ...أن أكتب وأكتب و أكتب حتي أنقل كل الحبر من أقلامه إلي الورق فينفذ الورق الأبيض من الوجود فألجأ للكتابة علي أوراق الأشجار حتي أعريها جميعاً فأتسلق العمارات وأكتب علي حوائطها الخارجية لأصبغها جميعاً بأزرق حبري ..وأسوده وأحمره ..ثلاثة ألوان أحب الكتابة بها ..
لا يا قلمي ..لن أطيعك في التوقف ..إن توقفت ستصيبني لوثة عقلية لا أعرف مداها ..برودة تزحف إلي أطرافي ورعشة أرتجف من أثرها تنتابني من حين إلي آخر ..وعقلي يدور كترس كوني هائل يحتاج لمعجزة كونية كي يهدأ ..فضلاً عن احتياجه لقيام القيامة حتي يتوقف..تتناثر في الفراغ أمامي وجوه أعرفها ولا أعرفها ..ضحكات تقطع نغمات "شوبان" الذي يزيد من توتري ويمنعني استمتاعي المضني به عن إسكاته ..لماذا أذكر "شوبان" هنا؟ هل لأبرز ثقافتي الموسيقية غير الموجودة أصلاً؟ هل لتعويض عقدة نقص ترسبت لدي منذ نعومة أظفاري بسماع الموسيقي العالمية؟ هل لأستظهر مدي رقي ذوقي ؟ لا أعرف.. لا أعرف.. لا أعرف ..لسان حالي الآن وعنوان وجودي هو "لا أعرف" ..
لا أستطيع الجزم أن ما أراه متسرباً يغتصب ظلام حجرتي هو ضوء نهار مادام بقلبي هذا السواد الشجي وهذا القمر الصغير الخافت المحتضر ..لا أستطيع أن أجزم أني حي وكل مقدرتي علي الفعل في الحياة قد تلخصت في هذا البوح الأحمق .. كما لا يجوز أن أؤكد أني ميت لشعوري بذلك الألم المتعاظم في صدري ..
"مقابض الخناجر" عنوان بليغ منطبق بإحكام علي أيامي القادمة التي لم تنغرس بلحمي بعد.."نزيف" نعم..هكذا بلا توصيف ..كلمة واحدة ملائمة للغاية كلافتة أغرسها بإصرار في صحراء عمري الكثير القليل الفائت ..."ماء الدموع" هل ماء الدموع هو أصل الحياة ؟ ..إن لم يكن كذلك لماذا إذن يهاجمنا في غمرة الحزن ..في نشوة الفرح..في الاستغراق في الضحك ..في صمت التأمل ..في افتقاد الأمان .. و حتي في ذروة المضاجعة ؟!! ....
من فرط توتري وأنا أكتب الآن قضمت شفتي السفلي حتي أدميتها ..مسحت دمائي بسبابتي اليمني ..دم أحمر..أحمر كثورة .. ثورة همجية عنيفة ..تماماً كاشتياقي لها ..ذلك الاشتياق العاصف بكل ذرة في كياني كرياح خماسينية عاتية ..وهو السبب الظاهر الخفي الأصلي الفرعي الرئيسي الجانبي لما أعانيه الآن ...
أشرب شاياً بأربع "فتلات" ..مراً كعلقم..أسود كفستان سهرة يُعري الكتفين لم أري مثيلاً له إلا منسدلاً علي جسدها المرمري محدداً لمفاتنه في حلم من أحلام يقظتي اللانهائية ..كم هي انفعالاتي حادة لا تعرف للوسطية سبيلاً .. فقد انزلقت من أدكن درجات الأزرق متدحرجاً علي سفح شديد الإنحدار من التدرج اللوني للأزرق ذاته –ثالث ألوان أحباري المحببة إحصاءاً لا ترتيباً – لأصل إلي أشدها صفاءاً .. أشدها هدوءاً ..لون اللبن الرائق المشرب بزرقة خفيفة كسماء ربيعية صافية ..حدث هذا التحول بعد أن أسمعتني تغريدها بحروف تتخللها دفقات حنان مركزة "وحشني صوتك"....