عازف قانون وحيد وسمكة خائفة تعشق الهدوء
هو:
كل مساء ..وقبل فتح الستار.. كان يرتدي نظارته السوداء لألا يخدش الحزن – المُحتل لعينيه من أثر الوحدة – استمتاع المستمعين لروعة عزفه .. علي القانون ..
لا يجلس مثل كل عازفي القانون في الصف الأول .. ولكنه يجلس في الصف الأخير .. وبالرغم من ذلك فإن ثلاثة من العجائز يحضرون إلي حفلات الفرقة الموسيقية التي يعمل بها خصيصاً من أجل القانون .. ينهي الحفلة ويحمل آلته .. يسير لمنزله .. يستبدل ملابسه بملابس أكثر راحة .. يحمل شبكة الصيد العجيبة التي ورثها من جده وعندما يعبر الطريق المفضي إلي البحر يتذكر جده عندما كان يصطحبه للصيد وعندما أورثه تلك الشبكة " في يوم ما .. لن أقله لك لألا تتكاسل اعتمادا علي ميعاده .. ستطلب من تلك الشبكة طلباً لن يُرَد " .. سنوات ولم يغير هذا العازف الوحيد أسلوب حياته كما لم يغير الطلب الذي يطلبه من الشبكة .. عندما يُرخي المساء ستائره السوداء.. يعزف .. وقرب نهايته .. يذهب للصيد .. وقبل أن تتمركز الشمس في كبد السماء .. يذهب للنوم .. وحيداً .. بلا صيد ..
هي:
لا يوجد في البحر مثلها .. سمكة زرقاء بديعة التكوين .. تنبثق من ذيلها الأصفر خطوط زرقاء غامقة كآشعة الشمس لتنتهي قبل بداية رأسها الذي تتوسطه عيناها الكبيرتان الجميلتان اللتان لا يضاهي جمالهما سوي زعانفها اللامعة.. خائفة دوماً .. خائفة من كل شيء .. من القروش والحيتان وأبو سيف والإخطبوط .. من الموت .. من قسوة الحياة .. من تلوث المياة .. من شباك الصيادين و صناراتهم .. ملّت ضجيج البحر وضوضائه و زحامه.. ملّت غدره وخياناته المتكررة التي تجرعتها يوماً بعد يوم فقررت اعتزال التجمعات التي كانت تنضم إليها مرغمة علّها تحصل علي بعض الألفة واحتمت بالشعاب المرجانية التي كانت تتغذي علي ما يتساقط من فتاتها وتدريجياً أخذ لونها يشحب ولمعانها يبهت وبريق عينيها يقترب من الانطفاء .. كانت تدعو الله وتتمني وتحلم وتطمح في الخلاص .. إلا أنها لم تكن تعرف كيف يكون ولكنها كانت واثقة بأيمان لا يتزعزع أن الله سيفعل الصواب ..
لقاء:
تمتم بأمنيته وألقى شبكته" لا أتمني إلا من أقتسم معه حزنه فأهونه عليه .. وأشاركه سعادته فتتضاعف "..نزلت الشبكة بهدوء مخترقة طبقات المياة لتستقر بجوار البقعة التي تختبيء فيها السمكة الخائفة ..ونادتها .. " هيا ..أقبلي أيتها الجميلة ..إنه يوم الخلاص " .. لم تستوعب السمكة أن يكون الخلاص علي يد شبكة صيد..؟؟ أيكون خلاصها أن تؤكل ..؟؟ .. ولكنها لم تشعر أن تلك الشبكة كأي شبكة .. أحستها مختلفة .. شعرت نحوها براحة وانجذاب جعلاها تستجيب لندائها الأوحد .. فتقدمت .. واستقرت بين خيوطها .. ونامت .. كما لم تنم من قبل ..
رفع العازف شبكته منتوياً الرحيل .. ولم يصدق عينيه عندما رأي تلك المخلوقة الفريدة ترقد بهدوء في شبكته .. ملأ حوض السمك الكروي الصغير بالمياة .. ورفع السمكة بين كفيه وقربها إلي شفتيه ..قبّلها .. ثم تركها تنزلق في المياه .. فتحت عينيها الكبيرتين الجميلتين .. لم تقفز .. أو تقاوم أو تتذمر .. استسلمت للوعد بالخلاص .. " فلنذهب يا صغيرتي .. فلم يعد هذا مكان أي منّا .. هيا بنا .. فأمامنا يوم طويل " قالها وعلي شفتيه ابتسامة قد هجرته منذ زمن .. وكان قلبه يرقص سعيداً علي أنغام من الفرح والبهجة والحبور ..
ماذا بعد ؟:
لم ينم العازف- الذي كان وحيداً –في ذلك اليوم .. قام بإعداد حوض السمك الكبير في شقته .. ملأ أرضيته بالأصداف والألعاب التي كان يعدّها خصيصاً لذلك اليوم .. نقل سمكته من الحوض الصغير للكبير .. وضع لها الطعام وأحضر قانونه وبدأ يعزف لها .. كانت تدور وتسبح في الحوض بحذر .. وعندما توقف عن العزف سألته :" ألن تأكلني ..؟؟" فرد: " لست صياداً ..!!" سألته :" أولست إنساناً ..؟؟ فرد :" لا تأخذيني بذنب باقي البشر " .. فعرضت عليه أن تحكي له حكاية عن البحر وعجائبه .. فوافق ..
وهكذا مرت الأيام .. يعزف لها .. وتحكي له .. يداعبها من خلف زجاج الحوض وتمتعه بسباحتها وحركاتها البهلوانية وألوانها البرّاقة وأحياناً يشكو لها فتهوّن عليه " أخبريني بالله عليكِ .. من يستحق أن أعزف له .. صوت آلتي يضيع وسط الضجيج .. ويلعب "الزهايمر " لعبته الدنيئة بعقول العجائز المخرفين الذين يدركون قيمة ما أفعله .. فما أن يغادروني .. لا يتذكرون شيئاً .. حتي اسم الآلة مضحك .. فلم يعد يتبعه أحد ...!!" فحركت ذيلها في دلال وقالت له :
" أولا أستحق أنا أن تعزف لي ؟؟" فابتسم ورد عليها في حنان :" بلي يا حبيبتي .. بل لا يستحق غيرك " وجلس يعزف لها ..
وبمقدار تزايد السعادة بداخلها لم تستطع التخلص من خوفها المتزايد بداخلها من الفقد .. من لحظة الوداع .. من يوم ضياع كل ذلك منها .. فكانت تسأله يومياً قبل نومه " ألن تتركني أبداً ..؟" وكان يجيبها في بساطة :" كيف أتركك وقد تمنيتك سنين .. كيف أتركك وقد حلمت بكِ قبل أن أجدكِ .. كيف أتركك وأنا لا أريد إلاكِ " .. فيطمئن قلبها .. وتحكي له حكاية جديدة .. قبل أن تنام ..
قضاء:
مرت الأيام والشهور والسنين .. والسمكة لم تعد خائفة ولكنها لا تزال تعشق الهدوء .. والعازف ظل عازفاً ولكن الوحدة لم تعد تعرف طريقاً إليه .. وفي يوم من الأيام علم العازف بوفاة أحد مستمعيه العجائز فذهب لمنزله ليقدم واجب العزاء .. وقلقت عليه السمكة قلقاً شديداً .. وفي كل دقيقة يتأخرها عن موعده .. كان قلقها وخوفها يتضاعفان .. حتي جاء .. واقترب يداعبها فوجد الدمعات تتساقط من عينها اليسري فقط .. وقبل أن يحكي لها ما حدث قالت بصوت يخرج بصعوبة من بين الدمعات " مش عارفة أحلّفك بأيه ..؟؟...بس............. ....... ..........................................................متسبنيش ..!!"
تأثر العازف بشدة .. جلس علي مقعده أمامها .. نزلت دمعاته رغماً عنه من عينه اليسري .. توقفت هي عن البكاء وحاولت أن تهوّن عليه .. أقسم لها أنه لن يتركها مهما حدث .. قالت أنها تصدقه ولكنها قلقت عليه عندما تأخر .. لم يستطع أن يوقف دمعاته حتي نزفت عينه .. وذهب بصره منها .. وبعد أيام لحقت بها عينه الأخري .. فلم يعد يغادر منزله .. ولم يعد يعزف إلا لها ..
نفذ مال العازف وطعامه .. هزل جسده وشحب لونه .. ولكنه كما هو .. يعزف لسمكته .. يداعبها .. ويستمع لحكاياتها الجميلة التي كانت بارعة في حكيها لدرجة أن كلماتها كانت تقع من عقله موقع المشاهد الحية فتعوض –ولو بعضاً – من فقدان بصره .. وفي هذه الأثناء كانت تشعر بالخجل والخزي والعجز بسبب عدم استطاعتها مساعدته .. وعندما اشتد به الجوع عرضت عليه أن يأكلها فرفض .. كان ضميرها يضربها من الداخل بضربات متلاحقة تمنت لو كانت أشد وأقوي حتي تنبت لها أيدي وأرجل وجسد بشري .. فتخرج من حوضها لتأخذه بين ذراعيها .. تستشعر حنانه المستديم وتكمل نواقصه فيري الدنيا بعينيها .. جميلة كما جعل حياتها .. ولكن حياته لم تدم حتي تتحقق لها امنيتها .. مات عازف القانون بعد أن تحققت أمنيته .. كما وعده جده .. بل وأكثر ..
و قدر:
من يوم وفاته .. وفي كل شهر .. في نفس اليوم والساعة والدقيقة والثانية .. تهبط دمعة كبيرة من العين اليسري للسمكة الزرقاء الجميلة .. وقبل أن تصل لقاع الحوض تتحول لسمكة صغيرة .. تشبه أمها تماماً .. وبمرور الشهور .. زاد عدد الأسماك الصغيرات .. وكن جميعاً يشبهن الأم تماماً .. يعشقن الهدوء .. ولا يعرفن للخوف سبيلاً.. وكانت الأم تجمعهن في كل يوم .. ولم تكن تحكي لهن ذكرياتها القديمة القاسية أو حتي حكايات البحر العجيبة .. لأنها كانت قد نسيتها تماماً .. كانت تحكي لهم فقط ما تتذكره .. حكاية عازف القانون الوحيد .. والسمكة ..........عاشقة الهدوء .................