الثلاثاء، ١٦ ديسمبر ٢٠٠٨

ترنيمة العشق الملكي


اهداء وشكر خاص:


إلي المبدعة نورسين ..

قلباً وقلماً..

لاشتراكها في هذا النص بكليهما..

ترنيمة العشق الملكي


قامت ملكة الملكات من نومها منزعجة فارتفعت بنصفها الأعلى من على الفراش الوثير .. متثائبة .. واضعة ظهر كفها الأيسر على أمام فمها ..مادة ذراعها الأيسر على أقصى امتداده ناحية اليسار ..ثم حركت رجليها وأنزلت قدميها الصغيرتين جميلتي الملمس علي أرضية الحجرة .. وما أن لامس كعباها الأملسان بلاط حجرة النوم الملكية .. حتى طلع النهار ....
رأت ملكة الملكات في منامها .. ورؤى الملكة لا تُخطيء ..لا تُخطيء رؤى الملكة .. الملكة رؤاها لا تخطيء .. كاتبها الحبيب الذي يُسلي أوقاتها بقصصه وحكاياته العجيبة ويقتل فراغها ومللها بنوادره الغريبة والقادر على قتل أرقها وتحويل دفة يأسها وجعلها أدق وأسرع في اتخاذ قراراتها .. رأته في منامها مهموماً عابساً وقلبه يكاد ينفطر بخنجر الحزن القديم .. رأته وروحه تحترق جالساً على ضفة نهر .. يبكي.. فتسيل دمعاته لتحيل مياه النهر لهيباً يستعر وكلما ترقرقت دمعة كلما استطالت ألسنة اللهب حتى تكاد تلامس أعنة السماء .. تعرف هي تفسير ذلك الحلم ..فالملكة تعرف الكثير ..كثير ما تعرفه الملكة .. تعرف الملكة الكثير .. تعرف ذلك الحزن القوي المبهم الذي يصيب الأرواح المرهفة .. تعرف أن مثل هؤلاء من ينظرون للعادي والمألوف بأعين من ماس فيحيلونه مثيراً وباعثاً للحكمة لأرواحهم أحكاماً قاسية لا يعرفها العامة ..أدركت أن كاتبها الأثيري قد زُج به في تلك الشرنقة السوداء وآلت على نفسها أن تخرجه .. ولأنها تعلم مدى ما يمكن أن تصنعه الكلمة بخالق للكلمة التقطت ريشتها الفضية من المحبرة العاجية وبدأت تخط على ورقة مأخوذة من جذع نخلة أندلسية .....
وما أن أنهت الملكة رسالتها حتى أودعتها مظروفاً أنيقاً يليق بالملكات وفوّحته بنقطة من عطرها النفّاذ وأرسلته مع أحد خصيانها لكاتبها في كهفه العالي بالجبل العظيم الواقع على حدود المملكة وعندما اشتم الكاتب عطر الملكة قبل أن يصل المرسول بساعات هبط من جبله ليستلم الرسالة بأيدي تبتسم وأعين تزغرد وقلب يكاد يتوقف من فرط الرقص ....
وهكذا قرأ الرسالة .......
"كاتبي ..."
ياله من شرف ملكتي الحسناء أن تذُيلي تلك الكلمة الملعونة بحرف الياء ..فامتلاكك لي يجعلني أخف من الطير وكل فرص الحرية أمامي إلا أني أؤثر عليها جميعاً التحليق حول هالتك النورانية متغذياً على ما تجود به روحك النقية الساحرة وسأشعر بالتخمة والامتلاء كلما ناديتني بلقب أو اسم يحمل بآخره ياءاً مثل تلك الياء ..
"المدلل"
يااااااااااااااااه يا مليكتي ..كم كنت أنزعج قبلاً عند سماعي تلك الكلمة .. فالمخلص لك لم يكن يوماً هذا الشخص ولا حتى اقترب منه بأي صورة من الصور أو شكل من الأشكال .. وددت أن أكون .. ومَن لا يود ؟!! ..لكن مولاتي الجحود ليس من صفاتي .. فمنذ وقعت عيناي علي جمال مولاتي وأنا مدلل مدلل مدلل ....!!
" انفث دخان حرائقك الغائرة في صدري ..."
آه مولاتي من سخونة دمعاتي التي سالت علي وجناتي عند قراءتي لتلك الكلماتِ .. أتريد ملكتي مني أنا الصعلوك الشريد التائه في البلاد أستجدي قروش العباد بحكي مكرر مُعاد أن أوجه دخان حرائقي الأسود القاتم المُقطرن إلى صدر مولاتي النقي الصافي الحاوي لأحن القلوب ..؟؟
"لتعود لك نسائم هادئة ...."
شديد الوثوق أنا مليكتي العظيمة أنه ستعود إليّ نسائم هادئة محملة بعطور الجنة طائرة على سحابة قطنية رطبة محمولة على أجنحة العصافير المغردة ..
"الزمه طويلاً ..املأه.. اشكوه واشكو إليه ..."
كم تمنيت أن ألزمه ..أن أرتمي به وأبكي ..أبكي وأبكي وأبكي حتى أنام .. أغفو تماماً فوقه .. بل -وسامحيني مولاتي إن تماديت في الحلم –أن تحتضنني ذراعاكِ بينما أنا على ذلك وتمسح عني كل ضعف و ألم و وهن .. كم شكوته إليه في سري .. شكوت وحدتي في بعاده وعجزي في صعوبة الوصول ...
"شق ستاره واسكنه..."
كفي مولاتي بالله عليكِ .. هل جاءتني رسالتكِ خطئاً ..هل المَعني بتلك الكلمات المُبعثات من موات أحداً غيري ؟؟ ..أسكنه.. نعم .. حلمت أن أسكنه لليلة واحدة أنتهي بعدها غير راغب في أي شيء وعندما أُسأل بعد وفاتي "هل عرفت في حياتك عذاباً قط ؟"
فأجيب "..قطعاً..لم أعرف طعم العذاب أبداً ......أبداً لم أعرف طعم العذاب " ...
"وابق به وحدك ..والق كل ما سواك خارجه "
ليس جديداً عليّ أن أكون وحدي مولاتي فأنا المحكوم عليه من الأقدار ألا أشبه أحداً .. ليس لي يد في أن أنشذ عن قطعان تماثلت وصفوف تراصت ..في أن يكونوا علي حال وأكون علي آخر .. أن أولد بيوم من أيام العام أتي مرة في غفلة من الزمن لم ولن يتكرر لأنشأ جسداً منكفئاً علي روح محلقة شديدة التنازع والتألق والسمو والانحطاط .. روح تدفع صاحبها إما أن يكون ناسكاً أو أن يكون لمفتاح بيت الشيطان ماسكاً .. أن يلتحف عباءة مسيح العصر أو أن ينغمس في وحل الرذيلة كخنزير .. فعاندت كليهما سيدتي ولجأت للإفلات من بين فكي المقص الحادين ..أغزل حكاياتي وحيداً في الليالي الطويلة الباردة وأدور بها أمتع الصغار وأحاول إزالة الصدأ عن أرواح ونفوس الكبار .. وأعود أول الليل أحتمي بجدران كهفي .. وإلي الآن أبقى به وحدي .. ولكن كيف يمكنني قبول الدعوة بأن أبقى بقلبك .. و وحدي .. إن قلبي أضعف من أن يتحمل ذلك .. فها هو من مجرد قراءة ذلك يحاول الخروج من مسكنه القديم بركلات متصاعدة في السرعة للجدار الداخلي لقفصي الصدري .. يبدأ الاستعداد لإلقاء كل ما سواه خارج حدود الجنة التي نالها بعد صبر طويل حق الطول ..
بعد أن يقرأ الخطاب عشرات المرات ويستطيع –بصعوبة بالغة- إبعاد أعينه عن أحرفه .. طواه .. قبّله .. ضمه إلي صدره بقوة .. وكلما يتحرك خطوة نحو مدخل الكهف يعاود الرجوع .. هل ستواتيه الجرأة للوقوف بين يدي ملكته والجهر بمكنوناته التي طواها لشهور وشهور .. هل سيمكنه حينها تطويع بلاغته وفصاحته لإغراقها بمشاعره المتدفقة .. خرج مسرعاً مندفعاً نحو طريقه إلي القصر وقد عزم علي أن يختصر كل مكنوناته خلال نبراته في نطق كلمتين "أحبُكِ"........."أشتااااااااااااااااااااااقُكِ" .........

"التُقل صنعة" ..كلمتان فقط كانتا تعليق وصيفة الملكة وخادمتها المطيعة المخلصة عندما أطلعتها الملكة علي رسالتها قبل إرسالها مباشرة ..فكان لذلك التعليق دوراً رقابياً لا يستهان به حيث أن ما تم حذفه أسهم-بدون أدنى قصد-في ألا يتجنب عاشقنا المتيم تلك الكلمتين بالتحديد في بث أشواقه .. فكان نص الرسالة –قبل أن تعرضها الملكة علي وصيفتها وبالتالي تجري عليها تعديلاً صغيراً بحذف كلمتين- كالتالي :
"كاتبي المدلل..انفث دخان حرائقك الغائرة في صدري لتعود لك نسائم هادئة ..الزمه طويلاً ..املأه ..اشكوه واشكو إليه ..شق ستاره واسكنه ..وابق به وحدك ..والق كل ما سواك خارجه ..أحبك .. أشتااااااااااااااااااااااقك.."
"التُقل صنعة" ..ترددت ثانية في أذن الملكة ولكنها أحست بها هذه المرة كأغلال من حمم جهنم تكبل قدميها عندما جعلتها –إمعاناً في الدلال- تتأخر قليلاً علي حبيب القلب والذي أخبرتها خادمتها أنه ينتظرها في بهو القصر ..