مآرب المشارب
خمر:
شربنا في تلك الليلة كما لم نشرب من قبل ،وبينما نحن سائران بشوارع وسط البلد نحو سيارته السوداء الفارهة.. دخلت أفكارنا السباق ..ولكن في نفس الفريق !!
تجسدت خيالاتنا ..طرحت أنا الفكرة..فأضاف عليها .. فنفخت فيها لتتضخم .. أضاءها .. فألبستها من أبيضي وأسودي .. فلونها .. قلّمت أظافرها .. فأغدق عليها من مباهج الزينة ، ككرة الثلج الهابطة .. أخذت روحانا تدعم جنوننا .. وبالتدريج لم نعد نسمع إلا أصواتنا .. لم نعد نميز أين نسير وإلي أين .. ومع كل تعديل أو إضافة أو كلمة ننطقها في نفس اللحظة تنطلق ضحكاتنا لتكسر حاجز الصمت الوهمي الذي صنعه اندماجنا .. كان يضحك حتي يعجز عن الكلام أو التنفس .. ويبدأ في سعال لا ينتهي إلا بمزحة يطلقها ليغرق في القهقهة من جديد .. وقفت .. وقف أمامي وكأننا متفقان سلفاً علي ما سيحدث.. بدأ في خلع حذائه وأتبعه بقطعة قطعة من بذلته الأنيقة .. ولما أتم الخلع نظر إليّ ليقرأ تلك النظرة التي كان ينتظرها والتي تُردد بلا تَردد جملة " أعلم أنك قادر علي فعلها" .. فينزل من علي الرصيف وفي منتصف الشارع تماماً ينظر برأسه إلي الأعلي .. يرفع يمناه بتشنّج إلي أقصي ما تستطيع أن تبلغ .. ويسراه منفرجة الأصابع مفرودة بجانبه تصنع مع جسده زاوية حادة ضيقة كتمثال قديم في أحد ميادين روما .. رفع كعبيه من علي الأسفلت .. ضغط جفنيه بقوة وتفصد العرق من جبهته .. "جزّ" علي أسنانه حتي كادت عروق رقبته تقفز لتقف بجانبه كأبنائه .. فتح فمه علي اتساعه حتي كاد فكّه السفلي أن ينخلع وأطلق صرخته: "أناااااااااااااااااااااااااااااااااااااا"
.. بابتسامة لا تفارقني كنت أراقب المشهد .. ولكني لم ألاحظ تلك السيارة القادمة نحوه في سرعة جنونية..كما-بالطبع- لم ألاحظ أن الكرسي خلف عجلة قيادتها ..كان خالياً.....!!
عصير:
واقفاً نفس وقفته لكن ملامحه كانت أكثر هدوءاً.. كان يقطف ثمرة مانجو من فرع أعلي من طوله بقليل.. كان مرتدياً-كما كنت أرتدي- فراء شاه لستر العورة .. قرص الشمس الأحمر المكتمل هو الخلفية المناسبة لمشهد بدائي كهذا.. واقفاً نفس وقفتي كنت.. وكان أمامي جزعاً لشجرة ..مثبت في الأرض بجذور يؤكد عمقها اتساع القطاع العرضي للجذع وعدد دوائره الكبير .. كان الجذع يصل لمستوي بطني وفوقه كنت أشعل ناراً أطهو عليها .. قطف الثمرة.. وبينما هو قادم نحوي متكئاً علي حربته المثبت في طرفها الأعلي ناب أيسر لفيل أفريقي كان ينظر إليها بشهوة بالغة .. سال الزبد من شدقيه واحمرت عيناه وتطاير منهما الشرر.. الخليط الذي أقلّبه في القدر النحاسي يفور ولا ينقصه سوي تلك الثمرة .. بعد تردد طويل ناولني إياها .. وبعد أول رشفة من العصير جري بأقصى سرعته .. وقف علي حافة الهاوية التي تفصل بين الجبل الذي نسكن قمته والذي يليه .. سحب شهيقاً كبيراً ملأ به رئتيه .. وقفز ..هل كنت مخطئاً إذن عندما أذقته عصيراً من المانجو..مختلطاً بدماء ضحاياه..؟؟
حساء:
أصاب التطور الموقد البدائي والقدر النحاسي وأصبحت أنا في مطبخ حديث أعد الحساء .. كانت هي واقفة تستند بكتفها الأيمن علي الحائط .. عاقدة ساعديها وتنظر إلي بشغف وشوق ورغبة حتي أني كنت أشعر بعينيها كمغناطيس قوي .. فأقاوم جسدي الذي بدأ يميل ناحيتها بفعل الإيحاء .. كنت أتكلم وأتكلم وأتكلم .. أتقافز بين الموضوعات بخفة ورشاقة فهد..من الطعام إلي السينما إلي الرياضة صعوداً إلي الأدب وهبوطاً إلي موضة هذا العام وأخبار الوسط الفني .. كانت -ظاهرياً- تنصت بكل جوارحها وإن كانت نظرتها تنفي ذلك .. تراقب انفعالاتي .. وكأنها تريد حفري في مخيلتها كنقش فرعوني.. لم يكن عقلها دائراً بعيداً عني فلم تكن سارحة وإنما كانت شديدة التركيز فيما ترغب هي التركيز فيه.. نطقت بعد صمت طويل " تفتكر في واحدة تقدر تقاوم واحد بيطبخ حلو زيك كده ؟؟" قلت " جايز " .. عقدت حاجبيها وضمت شفتيها كحبة كرز .. تتضايق من أن كل إجاباتي مفتوحة ..لا أعطي رأياً حاسماً .. نادراً ما أقطع بالرفض أو القبول لرأي ما .. بدأت الرائحة الذكية للتوابل الهندية والدمشقية تتصاعد .. أغمضت عينيها .. وأصدرت صوتاً يدل علي الاستمتاع والتلذذ دون أن تفتح شفتيها "اممممممممم" .. كنا نريد لليوم أن يمر عادياً بلا أدني إشارة أنه لقاؤنا الأخير .. لا أحب الوداع .. وأريد أن تكون ذكراي الأخيرة لديها هادئة .. ولكن هاتفاً جاءها –وأصررت أن تجيبه أمامي-من الذي ستزف إليه بعد أيام قلائل قلب كل الموازين.. وبتتابع مذهل للأحداث تشاجرنا.. صرخنا .. تعاركنا بالأيدي والأرجل .. ذبنا في عناق طويل نلعق جراحنا.. بلل كل منّا كتف الأخر بدمعاته الساخنة.. ارتدينا ملابسنا .. اتجهنا لبرج القاهرة..قررنا الانتحار .. ومن أعلي البرج .. اندمجنا في قبلة أخيرة .. 1..2..3..قفزت أنا.. ولم تقفز هي .. ظلت تنظر إليّ من أعلي .. وفي منتصف المسافة .. وجدته يواصل هبوطه من الجبل ..كان نصفه الأعلي الأملس عارياً .. مرتدياً بنطالاً قماشياً أسوداً وحذاءاً شديد اللمعان .. ما أن رآني حتي صاح "أنا لم أ......." .. وقطع جملته صوت الارتطام البشع -علي الأرضية الزجاجية التي لم تتحطم- ..لكلينا...
تبغ:
دعوني أعدّل قليلاً من الصورة السابقة .. بدلاً من أرضية زجاجية و رجلان نائمان عليها .. سأثبتها من عند أقدامهما وأرفع من الجهة الأخري.. نعم ..بالظبط هكذا .. سأرفع تلك الأرضية الزجاجية لأعلي من المستوي الأفقي للمستوي الرأسي حتي تصير جداراً رأسياً – واجهة بمعني أصح- وهما معها.. واقفان يدخنان بشراهة ويشعلان اللفافة من سابقتها وكأنهما يتنفسان النيكوتين .. البشر يجيئون ويذهبون وهما واقفان .. يتحدثان ولا ينظران لبعضهما البعض .. أعينهما مثبتة علي ذلك "المانيكان" خلف الواجهة الزجاجية .. كان مثبتاً في الأعلي تحت السقف مباشرة .. علي هيئة امرأة تتدلي من شرفة وكأنها تتابع هدفاً ما بالأسفل .. قال الأول ذو البذلة الأنيقة والحذاء اللامع :"مذهل" ..فرد الثاني –وكان شعره طويلاً وذقنه غير حليقه مرتدياً بنطالاً من الجينز ومعطف جلدي وكوفية ملونة كما يليق بشاعر صعلوك-:"مُلهم" ..فرد الأول : "فعلاً" وأضاف " تُري لمن تنظر ..؟؟" فأجاب الثاني :" المهم هل من تنظر إليه..ينظر إليها ..؟؟!!" ..شعر الأول بالبرد فاستخدم نظرية الإسقاط وسأل الثاني :"بردان..؟؟" .. فمنع غرور الثاني لسانه من النطق بالإيجاب :"يعني" .. و واصلا التأمل...
خمر:
نفذت سجائري .. وبدأت أضيق من هذا الرفيق قليل الكلام .. و شدة شعوري بالبرد تجعلني لا أستطيع التحرك لأحضر معطفاً من سيارتي أرتديه فوق تلك البذلة ..سألني :" تيجي نتدفي" ..أجبت في سرعة :" ياريت..بس ازاي ؟؟" .. فعدّل من وضع "كوفيته" علي رقبته وقال " ماتيجى نشرب ازازتين بيرة " .. فلم أشأ أن أخبره أني لم أفعلها من قبل.. فوافقت ..اقترح أن نذهب مشياً علي الأقدام لأن الحانة قريبة وقد لا نجد مكاناً أمامها لنضع السيارة .. ذهبت معه..جلسنا متقابلين علي منضدة مربعة صغيرة .. وعندما جاءت النادلة بالخمر .. نظرت إليها لأشكرها عندما ترقرق صوتها الجميل في أذني بجملة "أي أوامر تانية يافندم" ..حدقت بوجهها طويلاً .. فارتبكت .. أعطتنا ظهرها ورحلت ...وقبل أن أكمل سؤالي :" أليست تشبه ......؟؟" ملأتني الدهشة .. مَن هذا الجالس أمامي .. ؟؟ ..لأول مرة أري هذا الوجه الغريب .. فقربت رأسي منه حتي لا يسمعني أحد رواد الحانة وسألته وعقلي علي حافة الجنون :"من أنت..؟؟" فقال وهو يرمقني بنظرة جانبية و يرفع الزجاجة علي فمه-برغم وجود كؤوس- :"اشرب..اشرب"......فشربت.......
ماء:
نسرين لا تكذب أبداً ..لكن كيف أصدقها هذه المرة..!!
مشيت عبر المناضد تجاه البار..فتحت باب المخزن الصغير وأغلقته خلفي.. أخذت زجاجة الماء الصغيرة من الثلاجة الصغيرة وشربتها حتي آخرها .. أشرب ماءاً كثيراً عندما أكون متوترة .. ما معني أن أري هذا الشخص الذي يحدق بوجهي في حلمي ليلة أمس .. يضغط بقوة يديه علي رقبتي حتي كادت روحي أن تُزهق .. وعندما حاول الثاني-الجالس معه الآن-تخليصي قتله علي الفور ..ثم أجدهما في اليوم التالي جالسين معاً في الحانة التي أعمل بها ؟؟.. لابد أن كارثة ما ستقع ..سأهرب من قدري إذن ..سأدعي المرض وأغادر المكان..ما إن فتحت باب المخزن حتي وجدت نسرين-زميلتي – أمامي فسألتها: " شايفه الاتنين اللي علي ترابيزة خمسة..شكلهم مريب مش كده ..؟؟ " فردت في اندهاش : " سلامة عقلك يا حبيبتي ..ترابيزة خمسة فاضية .. ماهو حاجة م الاتنين .. يا إما نظرك بقا شيش بيش .. يا إما مخك بقا في المهلبية يا مهلبية " ..ثم قرصتني في ذراعي وضحكت ضحكة رقيعة وغادرتني-وهي تمشي مشية ال"cat walk " -لتواصل عملها ..
نسرين لا تكذب أبداً ..لكن كيف أصدقها هذه المرة..!!