الفرصة الأخيرة للكيوبيد الرابع
"في البدء كانا..."
صوت رجولي جذاب لمخرج ومؤلف وبطل العرض ينبعث في أرجاء المسرح :
الرجاء إغلاق الهواتف المحمولة..
وعدم التفكير بأي شيء..أو الإنشغال بأي شاغل..
الرجاء الإنفصال الكامل عن صندوق القمامة المُسمي عبثاً بالواقع ..
أهلا بكم في عالمي الخاص....
فيسود الهدوء التام ..وتتعلق الأعين بالستار الأحمر القاني وهو يرتفع لأعلي .. رويداً....رويداً....
"أن يهمس شارع لمار غريب"
تظهر خشبة المسرح بيضاوية ..تتألق بوهج أبيض مشرب ب"الروز" مع انبعاث موسيقي بيانو الكونشرتو العشرين ل"موتسارت" في الخلفية ..المدقق يلاحظ الأدخنة الرقيقة المنبعثة من حواف الأرضية امعاناً في دفء متحقق سلفاً..
أقصي اليسار تسعة كراسي سوداء ..تجلس علي كل منهم أنثي عارية تضم ساقيها وترفع قدميها علي حافته واضعة رأسها علي ركبتيها فلا يظهر أثر من عورتها ..التسعة لهن نفس الشكل تماماً كتسعة توائم متماثلة ..
أقصي اليمين تسعة كراسي بيضاء..يجلس علي كل منها رجل وسيم .. يتفقوا جميعاً في سُمرة البشرة مع اختلاف درجات الوسامة ..كلهم مفتولي العضلات بشكل واضح من تحت بذلاتهم البيضاء الأنيقة ..كل منهم يرتدي رابطة عنق بلون مختلف ولكنهم اتفقوا في أن يكون لها نفس البريق الخادع..
بالأعلى ..في الأركان الأربعة ..أربعة تماثيل ل"كيوبيد" ..تماثيل شمعية تكاد تنطق بالحياة ..موجهين بأسهمهم ناحية منتصف المسرح تماماً ..حيث يقف البطل والبطلة...
وجهها كان مطابقاً للفتيات التسعة ..تتألق في فستان أبيض مطرز بعناية .. طويلاً ..عاري الظهر والذراعين ..تهبط حدوده من الكتفين كمثلث متساوي الساقين لتُظهر مفرق الصدر ..تتبعثر في أرجاؤه زنبقات أندلسية سائحة بتناسق في تكوينه لا هي بالزرقاء ولا بالسوداء..في خنصرها الأيمن ترقد ماسة ..وكانت قدماها الصغيرتان شديدتا النعومة حافيتين ..علي السطح الدافيء...
لم يكن ناظراً إليها ..كانت واقفة و وجهها للجمهور وكان بجانبها ببذلته ورابطة عنقه وحذاؤه كاملي السواد ..وظهره لهم ..وما أن استدار ..حتي تفجّر بركان التصفيق ..من قبل أن يبدأ العرض...
"ذئاب تعوي وقافلة ت......."
وضع يد علي خصر واحتضن أنامل دقيقة بأصابع قوية حانية وما أن مسته حتي أصابتها رعشة نفضتها بالكامل ..فشجعتها عيناه الواثقتان وابتسامته الهادئة وقال:تذكري دوماً..هو ليس مجرد درس في الرقص..
وأخذها في لين إله...
واحد ..اثنان..ثلاثة..أربعة..
تحركت معه كلؤلؤة في صدفتها..كراقصة ماهرة مع أنها مرتها الأولي !!
لم تتحرك الفتيات التسعة مطلقاً..ولم ترمشن..كأصنام ..
أما الرجال ..فقد بدا عليهم التململ ..
والجماهير مأخوذة بالحالة تماماً ..كقوم"صالح" يتابعون نزول الناقة..من السماء..
الرقصة هادئة ..منسابة كشلال كسول ..وكلماته التي من المفروض أن يصّبها في أذنها فقط يسمعها كل المشاهدين عن طريق سماعات تم توزيعها بمهارة لكي يشعر الجميع بنبرات الصوت..ارتعاشاته..وطبقاته المتموجة ..والرسائل بين كل حرفين،
"أبداً لا تتكومي بخزانة"لو" و احصي الحقائق الحقائق في وجودك .. أيامك كنزك ..وأنتِ كنز من تختارين..فلا تدعي دفة التحريك لغيرك بعد اليوم..كوني أنتِ...يا صديقتي" وكان وجهه حينها ينطق بشباب يانع و ما يصدر عن لسانه يوحي بخبرة معرفية ليست بالقليلة..
"هل نستطيع الإختيار؟؟"
هبت ريح رقيقة..حركت موجات شعرها المنسدل يتلوى كجارية تراود سيدها.. ابتعدت عيناها عنه للحظة..اتسعت وهي تشاهد أول الإناث التسعة تتفتح كوردة ..كان جسدها جميلاً ولكن الثدي الأيسر لم يكن موجوداً ..رُشقت بموضعه زهره حمراء..وهناك خط دماء قصير جاف يبدأ من نقطة رشق الوردة..رفعت الفتاة يديها لأعلي..بدأ جسدها في الارتقاء تدريجياً وكأنها تُسحب ..هي كانت مستمرة بالرقص كأنه تنفسها ولكنها لم تستطع إبعاد ناظريها عن الفتاة ..قبل أن ينتهي تلامسها بالكرسي الأسود نهائياً خرجت الوردة من مكانها نهائياً ..انطلقت كرصاصة لتستقر في منتصف جبهة أول الذكور..فيتلاشيا سوياً..ينطلقا كدخان إلي الأعلي..تنبعث رائحة مسك..ترتسم علي شفتي الكيوبيد الأول ابتسامة ..تنظر إليه مستفهمة ومترجية "أرجوك..أكمل كلماتك..علني أفهم" ..ازداد اتساع ابتسامته ..و أزاح يده من علي خصرها ..ورفع الأخري محتضناً كفها الرقيق..فاستدارت ثم عادت لموضعها دون أن يطلب منها ..ليتلقاها علي ذراعه ..فيتكرر السيناريو مع البنت الثانية والرجل الثاني والثالثة والثالث وينطلق كيوبيد الأول من فوق ظهر بطلنا مباشرة مخطئاً هدفه وينضم للمتبخرون ..يعبق المكان برائحة ياسمين ..
تشعر أنها أقوي وأن دماؤها تسير بعروقها بتدفق أجمل ..ويواصلا الرقص..
"نحن أقل من أن نعرف أنفسنا..دعينا نحاول"
" جسدك جوهرة غالية..وقلبك جوهرة أغلي..فلا تمنحي أحدهما أو كلاهما إلا لمن له القدرة علي تثمين الجواهر ..إلا لمن يملك قلباً أدماه الحزن ..ولم تزده الأيام إلا مرارة فأيقن أن" ملعون ملعون ملعون من لا يقدّر حزن الإنسان"في زمن انتشرت فيه القلوب الجرانيتية المغرَضة..أو القلوب الأسمنتية المجردة من نقطة دم واحدة ..يا صغيرتي" وفي هذا الوقت كان الشيب قد بدأ يغزو فوديه وقد أضحت ملامحه أكثر نضجاً كقس بشوش..
"هل تعرفين الفرق بين من يحبك ،من يريدك ،من يهوي امتلاكك كتحفة..؟؟
و من يرغب في تواجدك وقتما يريد و كيفما يشاء لإكمال نقص لديه ..لكي يستطيع الانطلاق بحرية في مساحات أرحب مرتوياً بما يحصل عليه منكِ ومن غيرك ..يشبعك بتفاصيله ويتركك بعده تقاسين الذكريات؟؟ " .. أتحسبين كميات العطر التي تهبينه إياها ؟؟ أتعتقدين أنه يوم ذبولك ستمتد له يدك بقطرة ماء ؟؟" .. وكلما كانت تشرد أو تنظر للمعجزات الحادثة حولها يعيدها إليه بجملة واحدة كساحر:"خليكي معايا" ..
"الانسلاخ من رحم ما"
في مرآة عينيه الواسعتين..بدأت تلاحظ أنها أكثر جمالاً..هي تتغير .. تتحول ربما.. أخذها التفكير في كلماته ..من هذا؟؟ ..وما الذي أتي بها هنا؟؟ وكيف تستسلم له هكذا؟؟ تشعر أنها تعرفه منذ زمن ..أهو أخ لها لم يخبره عنها أبواها ..أم أنه كان حبيب لروحها في زمن سابق قبل أن تسافر هذه الروح المُعذبة عبر محطات الأجساد لتستقر عندها ؟؟ عندما شردت تعثرت خطواتها .. داست علي قدمه..كادت تقع ..ارتفعت شهقات الجماهير ..لم تتحرك الفتيات.. وانشغل الذكور الستة المتبقين حول منضدة للقمار..انقذها قبل وقوعها..احتضنها .. أمسك يدها في يده ..أحست بدفئه..موجات كهربية تنتقل بنعومة منه إليها.. وقفا و ظهرهما للفتيات وأشار للرجال صائحاً:" أنظري ..أكثر الأماكن ظلمة في الجحيم يذهب إليها الباقون علي حيادهم في أوقات الأزمات الفاصلة... يا بنيتي" وكان وجهه وقتها قد بدأ في اتخاذ هيئة شيخ حكيم..صنعت تجاعيده خبرات السنون المتراكمة..ولكن العجيب أنه يزداد جاذبية و وسامة ..
ارتقت الفتاة الرابعة والخامسة والسادسة ..مطلقات الرصاصات الزهرية الحمراء الثلاثة في جبهات الذكور المقابلين .. ليتبخر السبعة متضمنين كيوبيد الثاني الذي أخطأ هدفه.. لأنها تحركت معه ليبدءا الطريق من بدايته..
وأخذها في لين إله..
واحد ..اثنان..ثلاثة..أربعة...
"نهاية أو بداية لا فرق"
تدريجياً ..يخفت بيانو"موتسارت" وتعلو الموسيقي المصاحبة لأوبريت "صغيرة علي الحب" ثم ينطلق صوت"سعاد حسني..فتحرك هي شفتيها وتشير بإصبعها الرفيع ناحية الوحوش-الرجال الثلاثة-:هما إيه اللي خلاهم كده؟
يهدأ الصوت ليرد هو بصوته الواثق: ما هما أصلاً كده!!
" قد يوفر لكِ رجل ما استقراراً زائفاً بخارجه تخنقك أشباح الاكتئاب .. ولكن.. لا سعادة لإمرأة تعادل سعادتها في أن تكون معشوقة من رجل تعشقه ..فكل نجاحاتها تأتي في المراتب التالية ..فمن جعلت المال أو العمل أو الشهرة أو الدراسة هدفها الأسمى ونبراسها المرجو ..قد تسعد.. ولكنها تميت جوهرها.. تسحق فرصتها في الوصول إلي ما لن تصل إليه إلا به..و مع كامل احترامي للهرطقات المتكررة -بلا وعي أو فهم- عن الطبيعة والغريزة والأمومة ..هل تعادل لذة العشق ودفء الحنان و وهج الشوق و انتعاشة العناق و تنهيدة الأمان أن تتحول الأنثي لمفرخة أطفال مجيئهم لهذا العالم القذر هو خطيئة بأي صورة من الصور؟؟؟"
كلما شحبت الفتيات ..ازداد بهاؤها وجمالها ..وابتعد شكلها عنهن .. واقترب من المادة الخام للجمال..من القالب الذي خُلقت هذه الكلمة خصيصاً لأجله.. فعيناها أصبحت أجمل من عيني "نفرتيتي" .. وشفتاها أصبحت تنادي بالتقبيل مناداة لا يصلح معها الرفض مطلقاً ..
هو أصبح خليطاً هادئاً من زلزال وإعصار مياه .. تهمس البقعة للبقعة قد مرّت خطاه.. أضحت ملامحه موسيقي ..وترتيل صلاة..
و أخذها في لين إله...
واحد...إث..........
صوت لممثل مندس بين الجماهير يقاطعه ويناديها:" يا..........."
تنظر..
بسبابته يُدير وجهها إليه : " أبدأ لا تنظري ..إلا داخلك!!"
تقطب حاجبيها الجميلان علي عينيها اللتين لم-ولن تُخلق مثلهما وتبدأ فى الحيرة..تقول له بصوتها الحنون :"الطريق صعب"..
يحتويها بعينيه وابتسامته ..ثم يحتويها بذراعيه..يضمها إلي صدره العريض .. تتمايل معه علي أصوات عصافير خفيضة فيسكب عصارته في أذنها التي أضحت في مجال إطلاق شفتيه ..والجماهير تسمع الهمس وكأنه موجه إليهم وإليهن كل علي انفراد:" هكذا هو الطريق..صعب..ومليء بالاختبارات.. ومع كل اختبار اختيار.. إما العودة للوراء وهو موت ..وإما التقدم رغم النزيف..و هو موت أيضاً ولكنه ذلك الموت الذي يفتح أبواباً لحيوات أخري"
احتضنته بشده وكأنها تريد أن تموت هكذا ..مسّد شعرها بحنان..كان ماضيها كله ينشع كدماء تغطي أرضية المسرح ..نبتت جزيرة في المنتصف ..حملها وارتفع من علي الأرض بضعة سنتيمترات لأعلي ..طارا إليها..
"كفيلم رديء ..ماضيكِ..لا تشغلي بالك بنسيانه..دعي قطار الأيام يدهسه.. فيمحو ما يمحو ويشوش ما يشوش و يبهت ما يبهت ..وما سيبقي .. دعيه كإشارات حمراء تجنباً للوقوع..في نفس الفخاخ..يا أميرتي"...
كانت تشعر بمزيج من أحاسيس غرائبية ..تود أن تبكي وتضحك ..أن تتركه وأن تبقي معه.. أن تطير وأن تنام.. الهاجس الذي كان يلح عليها هو أنه مرسل لها من السماء .. في وقت محدد ...وبدقة..
" أن تعرفي نفسك هي بداية الطريق وليس نهايته.. أن ترفضي هو بداية القرار وليس تنفيذه ..أن ترفضي من اشتهيته لزمن عندما يأتيكِ راكعاً ..هنا ..وهنا فقط ..اعلمي أنكِ اتخذتى الخطوة الأولي ..وحينها يمكنني أن أفلت يداً من يداي .. و تختاري أنتِ ..أن تفلتي الأخري ..أو تعيدي إمساك الأولي ..أنتِ ..أنتِ فقط من سيختار ..وحينها فقط سيكون اختيارك صحيحاً "
ارتقت الفتيات الثلاثة المتبقيات..و وجهن قذائفهن هذه المرة إلي أعناق الوحوش-الرجال- ..
تسارعت رقصتهما ..كانت في قمة السعادة ..ولمن لا يعرف قد تبدو هي من تعلمه الرقص ..أخطئهما كيوبيد الثالث لحركتهما المرنة الرشيقة ..تبخر وصعد مع الصاعدين .. وبقي كيوبيد رابع معلق بين السماء والأرض..
هبط التغريد الكرواني ل"سعاد حسني": "بحر الهوا غدّار والخطوة فيه فدّان..
نزلوه ف ساعة شوق قبل الأوان بأوان ..ما تقولي ياصياد إيه الحكاية إيه؟؟
البحر غدّار ليه؟
الستار يهبط..
ليه؟
يهبط..
ليه.....؟"
""ستار""
"أهناك طريق بلا رفيق؟؟..ربما"
أفواه المشاهدين مفتوحة علي اتساعها..حواسهم مخدرة ..لا يستطيعون تصفيقاً..
خلف الستار..تباطئت سرعة الرقصة ..اتسعت ابتسامتها ..بدأت دمعاتها في الهطول رغماً عنها .. تثق أن مثله لا يصلح إلا لأن يكون فكرة لمدينة فاضلة ..
حلم جميل بعد ليلة تشبع وارتواء ..
بدأ يفقد اتزانه..مد إبهامه الأيمن.. مسح دمعاتها..وبإبتسامته الهادئة غسل روحها ..بدأ يتهاوي من بين أيديها ..لم يستطع التماسك..ترنح.. حاولت الامساك به ..ذهب مجهودها سُدي..
ببطء شديد..سقط..
سقط كريح عاتية تفزع لذكرها الأشجار ..
سقط كنسمة عابرة تداعب-برفق-الأزهار..
هوت فوقه ودمعاتها تبلل شفتيه المبتسمتين..كان نحيبها كافياً لذبح أي قلب..
أمسكت كفه..قبلتّها..ومسحت بها دمعاتها من علي وجنتيها..
قالت له:"سأحقق رغبتك..لن أخذلك....أبدأ"
ثم قبلت إبهامه الذي مسح دمعاتها منذ قليل..
قامت ..ارتدت معطفاً أسود به غطاء للرأس فبدت كراهبة..
وعلي باب المسرح لم تستطع أن تكتم صرختها المكلومة..فأطلقتها للسماء.. ولكنها لم تكن مسموعة لأن أصوات التصفيق المختلطة بهياج الجماهير وصفيرهم وصراخهم وبكاؤهم غطت علي جميع الأصوات..حتي اليوم التالي..